فرجع الزبير وهو حالف أنه لا يقاتل عليًا وخصوصًا حينما علم أن عمار بن ياسر مع علي وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتلك الفئة الباغية فكأنه قد شعر بأنه أخطأ في اجتهاده لأنه يعمل لله ومتى كان العمل لله كان الرجوع إلى الحق أقرب والهداية إلى الصواب أسهل فرجع كل منهم إلى قومه والجميع لا يشكون في الصلح وباتوا بأهنأ ليلة للعاقبة التي أشرفوا عليها
[*]
وهنا رأى السبئية قاتلهم الله أن الوقت قد حان لتنفيذ مآربهم فخرجوا في الغلس من غير أن يشعر بهم أحد وقصد مضرُهم مضر البصرة وربيعتُهم ربيعة البصرة ويمنهم يمن البصرة ووضعوا فيهم السلاح فثار كل قوم في وجوه أصحابهم وسأل طلحة والزبير عن الخبر فقيل لهما طرقنا أهل الكوفة ليلاً فقال قد علمنا أن عليًا غير منته حتى يسفك الدماء وإنه لن يطاوعنا وسأل علي عن الخبر وكان السبئية قد وضعوا عنده رجلاً يخبره إذ سأل فقال له ما شعرنا إلا وقوم منهم بيتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رحل فركبوا وثار الناس فقال علي لقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء وأنهما لن يطاوعانا ثم نادى في الناس أن كفوا
[*]
وكان من رأى الجميع في تلك الفتنة أن لا يبدؤوا بقتال يطلبون بذلك الحجة وألا يقتلوا مدبرًا ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلوا سلبًا ولا يرزؤوا بالبصرة سلاحًا ولا تيابًا ولا متاعًا فجاء كعب بن سور قاضي البصرة إلى أم المؤمنين وقال لها أدركي الناس قد أبى القوم إلا القتال لعل الله أن يصلح بك فركبت بعد أن ألبسوا هودجها الأدرع ثم سارت ووقفت بحيث تسمع ضوضاء القتال أما الزبير فإنه ترك القوم يقتتلون ورجع فتبعه رجل يعرف بابن جرموز وقتله غدرًا وهو يصلي بوادي السباع ولم يقاتل جيش البصرة إلا قليلاً ثم هزم فمروا في هزيمتهم على أم المؤمنين راكبة هودجها فأطافوا بجملها وقالت لكعب بن سور تقدم إلى هؤلاء القوم بالمصحف وادعهم إلى كتاب الله فرماه بعض السبئية بسهم قتله ورموا هودج أم المؤمنين بالنبل فجعلت تنادى البقية البقية يابني اذكروا الله والحساب ولا يأبون إلا إقدامًا فحرضت جيش البصرة على القتال حينما رأت أهل الكوفة يريدون هودجها
[*]
وهنا كانت حميتهم العظمى لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن هنا محيص عن القتال لأنه كالسيل إذا أتى لا يرد وأمسك بخطام الجمل كثير من أرباب الشجاعة من قريش وغيرهم فقتل دونه نحو السبعين من قريش وعدد عظيم من غيرهم وممن قتل دونه محمد بن طلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد واشتد أهل الكوفة على الجمل لأنهم رأوا أن البصريين لا ينهزمون ما دام واقفًا فرماه كثير منهم وكل من رماه قتل
[*]
فلما رأى على شدة الأمر وكثرة القتلى من المسلمين قال اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا عنه والذي دعاه إلى هذا الأمر الحذر على أم المؤمنين أن تصاب من كثرة النبل الذي سدد لهودجها فقطعوا ساق الجمل ثم اجتمع القعقاع بن عمرو وزفر بن الحارث على قطع بطان الجمل وحمل الهودج وإنه مثل القنفذ من كثرة السهام
[*]
وعند ذلك انهزم أهل البصرة فنادى على ألا لا تتبعوا مدبرًا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا دورًا وأمر بحمل الهودج من بين القتلى وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليه قبة وقال انظر هل وصل إليها شيء من جراحة فوجدها بحمد الله سليمة لم تصب بشيء ثم جاء هنا علي فقال كيف أنت يا أمه؟ قالت بخير يغفر الله لك قال ولك وظهرت آثار الكدر على أمير المؤمنين من هذا الحادث الجلل الذي لم يكن فيه مأرب وكذلك على السيدة أم المؤمنين؛ فإنها كانت تود الصلح ولم يجر ما جرى إلا رغمًا عن الجميع وكان علي يتمثل بعد انتهاء الموقعة بقول الشاعر
[*]
إليك أشكو عجري وبجري ومعشرًا غشوا على بصرى
[*]
قتلت منهم مضرًا بمضرى شفيت نفسي وقتلت معشرى
[*]
ثم أمر أن تنزل أم المؤمنين في دار خلف بن عبد الله الخزاعي على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وأذن في دفن القتلى ثم أطاف عليهم فلما رأى كعب بن سور قال زعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا قد ترون ولما أتى على طلحة قال لهفي عليك يا أبا محمد إنا لله وإنا إليه راجعون والله لقد كنت أكره أن أرى قريشًا صرعى وأنت والله كما قال الشاعر
[*]
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذ ما هو استغنى ويبعده الفقر
[*]
وصلى على القتلى من أهل البصرة وأهل الكوفة وبعث ما كان في العسكر من الأسلاب إلى مسجد البصرة وقال من عرف شيئًا فليأخذه إلا سلاحًا في الخزائن عليه سمة السلطان ثم دخل عليّ البصرة فبايعه أهلها وولى عليها عبد الله بن عباس وجعل على الخراج زياد بن أبي سفيان ثم بلغه أن رجلاً قال جزيت عنا أمنا عقوقنا وقال الآخر يا أمي توبي فأمر بكل منهما أن يجلد مائة جلدة
[*]
ثم جهّز علي أم المؤمنين وسيرها إلى المدينة واختار معها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه اجتمع الناس إليها فقالت يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها وإنه على معتبتي لمن الأخيار فقال علي صدقت والله ما بيني وبينها إلا ذلك وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة وخرجت يوم السبت غرة رجب من السنة السادسة والثلاثين فتوجهت إلى مكة فحجت ثم رجعت إلى المدينة والحمد لله
[*]
ورجع علي إلى الكوفة التي جعلها مقر خلافته فأرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية بالشام يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس ويعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته فامتنع معاوية حتى تقتل قتلة عثمان حيث كانوا ثم يختار المسلمون لأنفسهم إمامًا لأنه رأى أن بيعة علي لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد في الآفاق ولا تتم البيعة إلا باتفاقهم ولا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم فجعل رضي الله عنه القصاص من قتلة عثمان أول واجب على المسلمين والذي يطالب به وليه ثم اختيار الإمام أمر ثان
[*]
ولم يكن معاوية يتهم عليًا رضي الله عنهما بالمبالاة على عثمان حاشًا لله بل كان يظن فيه الهوادة عن نصرة عثمان من قاتليه ولقد كان إذا وجه ملامته إنما كان يوجهها عليه في سكوته فقط كما ذكر ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمة تاريخه
[*]
أما علي رضي الله عنه فكان يرى أن بيعته قد تمت ولزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وهو موطن الصحابة وأرجأ الأمر في القصاص من قتلة عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ مما يجب أن يفعل وبذلك عد من لم يبايعه خارجًا عليه يحل له قتاله فخرج فعسكر بالنخيلة وقدم عليه ابن عباس من البصرة واستخلف عليها زيادًا ثم قدَّم طلائعه وعبَّأ جيوشه قاصدًا محاربة أهل الشام لإجبارهم على الدخول فيما دخل فيه الناس
[*]
[*]
ولما علم بذلك معاوية سار إليه في جيوش الشام فالتقى الجيشان في سهل صفين على نهر الفرات شرقي حلب فمكثا يومين ابتدأت بعدهما المراسلة فأرسل على بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله والطاعة والجماعة فتوجهوا إليه فتكلم بشير بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه وإني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة وألا تسفك دماءها بينها فقال معاوية هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال بشير ليس مثلك إن صاحبي أحق البرية بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة بالرسول صلى الله عليه وسلم قال فماذا يقول ؟ قال يأمر بتقوى الله وأن تجيب ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك قال معاوية ونترك دم ابن عفان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدًا
[*]
فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معاوية قد فهمت ما رددت على بشير إنه والله لا يخفى علينا ما تطلب إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قتل إمامكم مظلومًا فنحن نطلب بدمه فاستجاب لك سفهاء طغام وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورب متمنى أمر وطالبه يحول الله دونه وربما أوتى المتمنى أمنيته وفوق أمنيته والله ما لك في واحدة منهما خير والله إن أخطأت ما ترجو إنك لشر العرب حالاً ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلى النار فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله
[*]
فأثَّرت مقالته هذه في معاوية أشد التأثير لأنه حمله فيها ما لم يرده فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أول ما عرف به سفهك وخفة حلمك أن قطعت علي هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم اعترضت بعد فيما لا علم لك به فقد كذبت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت انصرفوا فليس بيني وبينكم إلا السيف
[*]
ومن هنا يفهم أن السفراء بين الأمراء عليهم المدار في الإصلاح والإفساد ولقد صدق معاوية فإن شبث بن ربعي كان من أول الخارجين على أمير المؤمنين علي فرجع الوفد إلى علي وأخبره وكانت الحرب إذا لا محيص عنها إذ معاوية يطلب قتلة ابن عمه عثمان بن عفان وهو أولى الناس بالمطالبة بذلك لأنه وليه وحدود الله لا تؤخر لأي سبب وعلي يريد رده إلى الطاعة والجماعة ثم ينظر في القصاص من قتلة عثمان ومع ذلك كانوا يحذرون أن يلقى أهل الشام جمع أهل العراق حذرًا من الهلاك والاستئصال فيضيع الإسلام ويطمع فيه أعداؤه فصار علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه فيخرج له معاوية مثله وداموا على ذلك إلى أن أهل محرم السنة السابعة والثلاثين فعقد علي ومعاوية هدنة مدتها شهر طمعًا في الصلح
[*]
واختلفت بينهم الرسل فأرسل على عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن حفصة فتكلم عدي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنا أتيناك ندعو إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء ونصلح ذات البين؛ إن ابن عمك أحسن الأمة سابقة وأحسنها في الإسلام أثرًا وقد استجمع الناس ولم يبق أحد غيرك وغير من معك فاحذر يا معاوية لا يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل
[*]
فقال معاوية كأنك إنما جئت مهددًا ولم تأت مصلحًا هيهات يا عدي إني والله لابن حرب لا يقعقع لي بالشنان وإنك والله من المجلبين على عثمان وإنك من قتلته وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به فقال من مع عدي أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال دع ما لا ينفع وأجبنا فيما يعم نفعه
[*]
فطلب معاوية أن يسلِّم علي من معه من قتلة عثمان ومن ألب عليه فقال شبث بن ربعي أيسرك أن تقتل عمار بن ياسر؟ فقال وما يمنعني من ذلك لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان فقال شبت والله الذي لا إله غيره لا تصل إليه حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض والفضاء عليك فقال معاوية لو كان كذلك لكانت عليك أضيق ثم تفرق القوم بلا نتيجة
[*]
وكذلك رجع من بعثهم معاوية إلى علي لأنه كان يريد قبل كل شيء مبايعته ثم ينظر في أمر قتلة عثمان
[*]
ولما انقضى شهر الهدنة أمر علي مناديًا ينادي يا أهل الشام يقول لكم أمير المؤمنين قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ثم أوصى أصحابه فقال لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فأنتم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حجة أخرى فإذا هزمتموهم؛ فلا تقتلوا مدبرًا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترًا ولا تدخلوا دارًا ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوى والأنفس
[*]
ثم عبأ جيشه وأمر أمراءه وكذلك فعل معاوية وابتدأ القتال يوم الثلاثاء أول يوم من صفر فخرجت فرقة من أهل العراق ومثلها من أهل الشام واقتتلنا طول النهار وهكذا في الأيام التالية له فلما كان مساء الثلاثاء الثامن من صفر خطب على أصحابه فحمد الله وأثنى عليه فقال الحمد لله الذي لا يبرم ما نقضه وما أبرم لم ينقضه الناقضون ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه ولا اختلفت الأمة في شيء ولا جحد الفضول ذا الفضل فضله وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار فنحن بمرأى من ربنا ومسمع فلو شاء عجل الفتنة وكان منه التغيير حتى يكذب الظالم ويعلم الحق أين مصيره ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال والآخرة دار الفرار ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ألا وإنكم لاقوا القوم غدًا فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله النصر والصبر والقوهم بالجد والحزم وكونوا صادقين
[*]
وأجمع على أمره على ملاقاة جيش معاوية عند المساء وكل غير غالب أما في يوم الخميس عاشر صفر فإن رحا الحرب دارت بشدة على الطائفتين وظهرت فصاحة الفصحاء وبلاغة البلغاء وكل يرى نفسه في طاعة الله فكان أحدهم إذا رأى فرقة ملت القتال رمى عليها بصواعق من لسانه فتعود إلى حميتها وكان للأشتر بن الحارث اليد الطولى فإنه صار يتقدم ممن معه حتى قارب معاوية وكان معاوية بعدها يقول كدت أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة
[*]
أبت لي عفتي وأبى بلائي وإقدامي على البطل المشيح
[*]
وإعطائي على المكروه مالي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
[*]
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
[*]
فمنعني ذلك من الفرار
[*]
وأحاطت به جيوش الشام وحميت قلوبهم ولم يصدهم عن القتال إقبال الليل فاستمروا على ما هم عليه ليلة تعد من ليالي الإسلام المظلمة وأصبحوا وكان الملل والسآمة في جيش الشام أبين
[*]
[*]
[*]
فلما كانت سنة ثمان وثلاثين أرسل معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف فسار حتى نزل أداني مصر فجاء من خالف على محمد بن أبي بكر وطالب بدم عثمان فاجتمع بهم وكتب إلى محمد أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحبك أن يصيبك مني ظفر إن الناس في هذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك وهم مسلمون فاخرج منها إني لك من الناصحين
[*]
فكتب محمد إلى علي بالخبر واستمده فأرسل إليه أن يضم شيعته إليه ويأمره بالصبر ويعده بإنفاذ الجيوش إليه فقام محمد في الناس وندبهم إلى الخروج معه فانتدب له ألفان أمر عليهم كنانة بن بشر فسيرهم أمامه وتوجه هو بألفين لقتال عمرو فلما التحم كنانة بجيوش الشام ومعهم عاوية بن خديج من أهل مصر انهزم المصريون وقتل كنانة فلما سمع بذلك من مع محمد تفرقوا عنه فاختفى أما عمرو فإنه سار حتى نزل الفسطاط وخرج معاوية بن خديج يطلب محمد بن أبي بكر حتى التقى به فقتله
[*]
ولما بلغ قتله أم المؤمنين عائشة جزعت عليه جزعًا شديدًا وضمت إليها أولاده وبقتل محمد صارت مصر في طاعة معاوية بن أبي سفيان وبايع له أهلها أما المدد الذي أرسله أمير المؤمنين لمساعدة محمد بن أبي بكر فإنه بلغهم وهم في الطريق قتله فرجعوا
[*]
وبعد أن تم لمعاوية أمر مصر سير إلى البصرة عبد الله بن الحضرمي وكان عليها إذ ذاك زياد بن أبي سفيان خليفة لابن عباس فاجتمع إلى ابن الحضرمي جمع كثير من بني تميم كانوا يطلبون بدم عثمان فطلب منهم المساعدة فقام إليه الضحاك بن قيس وكان على شرطة ابن عباس فقال قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه نحن الآن مجتمعون على بيعة علي وقد أقال العثرة وعفا عن المسيء أفتأمرنا أن ننتضى أسيافنا ويضرب بعضنا بعضًا ليكون معاوية أميرًا فقام عبد الله بن خازم السلمي وقال للضحاك اسكت فلست بأهل لأن تتكلم وقال لعبد الله نحن أنصارك ويدك والقول قولك
[*]
فلما رأى ذلك زياد استجار بالأزد فأجاروه هو بيت ماله وأرسل إلى علي بالخبر فبعث إليه أعين بن ضبيعة المجاشي التميمي ليفرق تميم عن ابن الحضرمي فقتل غيلة فلما بلغ ذلك عليًا أرسل جارية بن قدامة السعدي فسار إلى البصرة وخطب الأزد وجزاهم عن أمير المؤمنين خيرًا وقرأ على أهل البصرة كتاب علي يهددهم ويتوعدهم فيه بحرب أشد من وقعة الجمل فأجابه أكثر أهل البصرة فسار إلى ابن الحضرمي وقاتله هو ومن معه حتى هزمه فتبعوه حتى قتل
[*]
ثم صار معاوية يوجه السرايا إلى بلاد أمير المؤمنين ليدخلها في طاعته وسير يزيد بن شجرة إلى مكة ليحج بالناس ويبايع أهلها على طاعته وكان واليها من قبل عليّ قثم بن العباس وليس عنده قوة يقاتل بها فلم يقدم على القتال فأما ابن شجرة فأمن الناس إلا من قاتل وأرسل إلى أبي سعيد الخدري يخبره أن يأمر قثم ألا يصلي بالناس ولا يصلي أيضًا ابن شجرة ويختار الناس من يصلي فاختاروا شيبة بن عثمان فصلى بهم وتم الحج بسلام ولم يحصل إلحاد في الحرم حذرًا من وعيده تعالى في قوله إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج 25] وصارت السرايا بعد ذلك تتردد بين الجهتين وكل يريد جمع الكلمة فلم يتيسر لأحدهما ولكن الحجاز واليمن دخل أهلوها في طاعة معاوية حينما سير إليهما بسر بن أرطأة العامري فلم يعد مستمسكًا ببيعة أمير المؤمنين إلا العراق وما والاها من بلاد فارس وكلها نار تضطرم بالخلاف والشقاق فريق شيعة علي وآخرون خوارج لا يريدون عليًا ولا معاوية وفريق منافق يظهر طاعة علي ويخفى عداءه فملهم أمير المؤمنين وسئم إمارته عليهم حتى خاطبهم بذلك في كثير من خطبه
[*]
[*]
وفي السنة الأربعين من الهجرة النبوية أراحه الله من هذا الشقاق المتتابع والخلاف المستعصي فضمه إلى إخوانه من الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًأ وسبب ذلك أنه اجتمع ثلاثة من الخوارج وتذاكروا ما حل بإخوانهم من الخوارج وكرهوا المقام بعدهم فاتفقوا على أن يذهب أحدهم وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي إلى الكوفة فيقتل عليًا ويذهب الثاني وهو البرك بن عبد الله التميمي إلى الشام فيقتل معاوية ويذهب ثالثهم وهو عمرو نب بكر التميمي إلى مصر فيقتل عمرو بن العاص واتعدوا بنيهم ليلة ينفذون فيها ما اتفقوا عليه
[*]
فأما البرك فذهب إلى معاوية وانتظره في صلاة الصبح فضربه بالسيف فوقع في أليته ولم يمته فأمر به معاوية فقتل
[*]
وأما عمرو بن بكر فذهب إلى عمرو ولحسن حظه لم يخرج إلى الصلاة في ذلك اليوم لمرضه فكان يصلي بالناس خارجة بن حذافة السهمي فضربه الخارجي فقتله ظنًأ منه أنه عمرو فخاب ظنه وقبض عليه فقتل
[*]
وأما عبد الرحمن بن ملجم فقصد الكوفة وانتظر أمير المومنين في صبح الليلة التي اتعد فيها الخوارج وهى ليلة الجمعة لسبع خلون من رمضان فبينما أمير المؤمنين ينادي الناس الصلاة الصلاة إذ ضربه هذا الشقي بسيفه قائلاً الحكم لله لا لك يا على ولا لأصحابك فقال على لا يفوتنكم الرجل فشد عليه الناس وأخذوه وقدم جعدة بن هبيرة يصلي بالناس الصبح ثم قال رضى الله عنه النفس بالنفس إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت فيه رأيى يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن إلا قاتلي انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ودخل جندب بن عبد الله فقال يا أمير المؤمنين إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن؟ فقال ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر
[*]
ثم دعا الحسن والحسين فقال لهما أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تبكيا على شئ أزوى عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع واصنعا للأخرى وكونا للظالم خصيمًا وللمظلوم ناصرًا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم
[*]
ثم نظر إلى محمد الأكبر الحنفية فقال له هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ قال نعم قال فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك وتزين أمرهما ولا تقطع أمرًا دونهما
[*]
ثم قال للحسن والحسين أوصيكما به فإنه شقيقكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه وقال للحسن أوصيك أي بني بتقوى الله وإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور وأوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ثم لم يزل يذكر الله حتى مات رضى الله عنه فغسله ولداه الحسن والحسين وابن أخيه عبد الله بن جعفر وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص وكبر عليه الحسن سبع تكبيرات
[*]
ومكث رضى الله عنه في الخلافة أربع سنين وسبعة أشهر وأيامًا أراد الله فيها أن يذيق الأمة كأس الضر من الاختلاف عليه لتكون قد ذاقت الأمرين السراء والضراء والأخوة والشقاق فتختار لنفسها ما يوفقها الله له
[*]
وقد كان الله سبحانه وتعالى يعلم الأمة المحمدية في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقاب يعجله جزاء على أعمال لتحذير الأمة من العودة لها كما عاقب بالهزيمة في عزوة أحد إذ فشل المسلمون وتنازعوا في الأمر وعصوا الرسول فلم يعد المسلمون بعد ذلك لشئ من هذه الثلاث لعلمهم بأنه يبعدهم عن الله جل ذكره وما داموا كذلك فنصره بعيد عنهم وكذلك في هذه الواقعة أراد الله أن يعاقبهم على ما فعله بعضهم في خليفتهم الذي بايعوه وتعهدوا بطاعته ثم نكثوا بيعته وقتلوه ظلمًا فعاقبهم الله بهذا العقاب الشديد وأوقع بأسهم بينهم حتى لا يعودوا لتفريق كلمتهم وشق عصا أئمتهم نسأل الله التوفيق
[*]
ولما استشهد على رضى الله عنه بايع أهل الكوفة ابنه الحسن وأول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة قال له ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المحلين فقال الحسن على كتاب الله وسنة نبيه فإنهما يأتيان على كل شرط فبايعه الناس على ذلك