بحث جاهز حول علي بن ابي طالب
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي القرشي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف
ولد رضي الله عنه في السنة الثانية والثلاثين من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بعث عليه السلام كان علي دون البلوغ وكان مقيمًا معه في منزله يطعمه ويسقيه لفاقة لحقت بأبيه فاهتدى بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتدنس بدنس الجاهلية من عبادة الأوثان وغيرها
ولما هاجر عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة فداه علي بنفسه ونام على فراشه ليظن المحاصرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل نائمًا فلا يتبعونه ثم لحقه بعد قليل
وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله غزواته كلها إلا غزوة تبوك فإنه خلفه في أهل بيته وقال له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي وكان له القدم الثابت في جميع الغزوات فهو أول المبارزين يوم بدر وممن ثبت يوم أحد وحنين وعلى يديه فتحت خيبر
وزوجه عليه الصلاة والسلام بنته فاطمة في السنة الثانية من الهجرة فجاء منها بالحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى
وناب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة أوائل التوبة في موسم الحج إيذانًا ببراءة الله ورسوله من المشركين
ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبويع أبو بكر بايعه على مع أنه كان يرى له حقًا في الخلافة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه كان يكره الخلاف ولذلك كان محمد بن سيرين التابعي يكذب كل ما نسب لعلي من الأقوال التي فيها حط من مقام الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما روى ذلك عن البخاري في صحيحه
ولما ولى عمر بايعه كذلك وزوجه بنته أم كلثوم وكثيرًا ما كان عمر يستخلفه على المدينة إذا غاب عنها ولما بويع عثمان بايعه كذلك حتى كان آخر خلافته وقام عليه الثوار وشنعوا عليه بتولية أقاربه وكان علي كثيرًا ما يمحض له النصح ويرشده إلى ما فيه النجاح فلما حل القضاء المبرم واستشهد عثمان أقبل عليه المسلمون وبايعوه بالخلافة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فقام بها رضي الله عنه ما يقارب خمس سنين لم يصف له فيها يوم وكان أمر الله قدرًا مقدورًا
كان رضي الله عنه آدم شديد الأدمة ثقيل العينين عظيمهما ذا بطن أطلع عظيم اللحية كثير شعر الصدر هو إلى القصر أقرب وكان ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها وكان من أحسن الناس وجها ولا يغير شيبه كثير التبسم
له من الأولاد غير من ذكرناهم العباس وجعفر وعبد الله وعثمان وعبيد الله وأبو بكر ومحمد الأصغر ويحيى وعمر ورقية ومحمد الأوسط ومحمد الأكبر الشهير بابن الحنفية وأم الحسن ورملة الكبرى وأم كلثوم الصغرى وأم هانئ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة من أمهات شتى وأعقب من هؤلاء الحسنان ومحمد الأكبر وعباس وعمر
أول إمارته بعث عمالاً على الأمصار غير جميع عمال عثمان فبعث على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري بدل عبد الله بن عامر وعلى الكوفة عمارة بن شهاب بدل أبي موسى الأشعري وعلى اليمن عبيد الله ابن عباس بدل يعلى بن منية وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بدل عبد الله بن سعد وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية بن أبي سفيان وأمر كلاً بالتوجه إلى عمله
فأما عثمان بن حنيف فتوجه إلى البصرة ولم يرده عنها أحد ولم يعارضه ابن عامر وأما عمارة بن شهاب فقابله وهو قريب من الكوفة طليحة بن خويلد الأسدي فقال له ارجع فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلاً فرجع إلى علي وأما عبيد الله بن عباس فلما قارب اليمن خرج منها يعلى بن منية وأخذ كثيرًا من الأموال وذهب إلى مكة فدخل عبيد الله اليمن غير معارض وأما قيس بن سعد فلما وصل مصر افترق أهلها عليه ففرقة دخلت في الجماعة وفرقة اعتزلت بخربتا وقالوا لا نكون مع علي إلا إن قتل قتلة عثمان وفرقة قالوا نحن مع علي إلا إن قاد من إخواننا فكتب قيس إلى علي بذلك وأما سهل بن حنيف فلما وصل تبوك قابلته خيل عليها رجال من أهل الشام فردوه
وسبب ذلك أن أم المؤمنين لما قضت حجها بلغها وهي عائدة قتل عثمان وخلافة علي فقالت قتل عثمان والله مظلومًا والله لأطلبن بدمه فرجعت إلى مكة وخطبت الناس فقالت
أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم قبله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزل لهم عنها فلما لم يجدوا حجة ولا عذر بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام والله لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذا ماصوه غسلوه ما يماص الثوب بالماء
وتبعها في رأيها عبد الله بن الحضرمي عامل مكة ومن هرب من بني أمية من المدينة وقدم عليها عبد الله بن عامر من البصرة ويعلى بن منية من الكوفة وتبعها أيضًا الزبير وطلحة
وكان كثير من الصحابة يرون أن أول الواجبات على المسلمين في هذا الوقت هو تتبع قتلة عثمان والقصاص منهم إقامة لحد الله ورأوا أنه لا يصلح تأخيره مهما نتج منه فكأن إقامة هذا الحد في عنق كل مسلم وهو ملزم بالقيام بما يوصل إليه
ولم ير الزبير ولا طلحة هذا خروجًا على الإمام لأن بيعة علي لم تنعقد حسبما اجتهدا لأن كثيرًا من الصحابة في المدينة وغيرها لم يبايعوا أما بيعتهما فكانت كرها والسيف على أعناقهما وهذا على رأيهما لا تجب به طاعة فاستقام رأيهم على قصد البصرة ودعوا عبد الله بن عمر للخروج معهم فأبى
وسار مع أم المؤمنين جمع كثير وكان يصلي بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ولما قاربوا البصرة أرسلت عائشة عبد الله بن عامر ليعرف أهلها بقدومها ففعل
أما عثمان بن حنيف أمير البصرة فإنه بعث إلى أم المؤمنين عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي ليسألاها عن سبب قدومها فلما وصلاها قالا إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت ما مثلي يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء وأهل القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة وقرأت لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء 114]
فتركاها وأتيا طلحة والزبير وقالا ما أقدمكما؟ قالا الطلب بدم عثمان فقالا ألم تبايعا عليًا؟ قالا والسيف على أعناقنا وما نستقيله البيعة إن هو لم يُحل بيننا وبين قتلة عثمان فرجع عمران وأبو الأسود إلى ابن حنيف وأخبراه الخبر فصمم علي منع البصرة حتى يحضر علي ثم أراد أن يعلم هل أحد في البصرة يمالئ طلحة والزبير فدس رجلاً إلى الناس فقال أيها الناس أنا فلان إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير وإن كانوا جاءوا يطلبون قتلة عثمان فما نحن قتلته فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا فقام إليه أحد زعماء البصرة وقال أو زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا
فعرف ابن حنيف أن لطلحة والزبير أنصارًا بالبصرة فخرج بمن معه حتى نزل ميسرة المربد وأقبلت أم المؤمنين فنزلت ميمنته وخطبت الناس وكانت جمهورية الصوت فحمدت الله تعالى ثم قالت
إن الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم فننظر في ذلك نجده بريًا تقيًا وفيًا ونجدهم فجرة غدرة كذبة وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا عذر ألا إن مما ينبغي ـ لا ينبغي لكم غيره ـ أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله ثم قرأت ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون [آل عمران 23]
فتبعها جمع من أصحاب عثمان وأقبل عليها جارية بن قدامة السعدى وقال يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح إنه قد كان لك من الله سترة وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك إنه من رأى قتالك يرى قتلك إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى بيتك وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
ثم أقبل عليها حكيم بن جبلة في فرسان البصرة ومعه جمع فقاتل من معها فأمرتهم بالكف والمدافعة فلم ينته حكيم فأمرت أن يأتي الجيش مقبرة بني مازن في الجهة اليمنى وحجز الليل بين الفريقين
فلما كان الصباح خرج حكيم يقدم جيشه وقاتل إلى قريب المساء فلما مسهم حر السلاح تنادوا إلى الصلح حتى يرسلوا إلى المدينة من يعلم لهم أكانت بيعة طلحة والزبير طوعًا أم كرهًا فإن ثبت أنهما أكرها ترك ابن حنيف البصرة وإن لم يكونا أكرها يرجع الزبير وطلحة
فأرسلوا لذلك كعب بن سور قاضي البصرة فلما قدم المدينة قال يا أهل المدينة أنا رسول أهل البصرة إليكم أسألكم أأكره طلحة والزبير على البيعة أم أتيا طائعين؟ فأجاب أسامة بن زيد بأنهما أكرها فلقي أسامة من والي المدينة سهل بن حنيف أخي عثمان بن حنيف إهانة وبلغ هذا الخبر عليًا فأرسل عثمان بن حنيف يقول له والله ما أكرها على فرقة ولقد أُكرها على جماعة وفضل فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا
فقدم كعب بن سور ووافق قدومه وصول كتاب عليَّ فأخبر كعب بإكراه الزبير وطلحة على البيعة فطلبا من ابن حنيف أن يخرج من البصرة فامتنع محتجًا بكتاب علي فبيته القوم ذات ليلة واستولوا على البصرة وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر وحبسوا ابن حنيف فبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأقبل برجاله يريد نصره وكلم عبد الله بن الزبير طالبًا أن يخلي سبيل عثمان ويجلس في بيت الإمارة حتى يأتي علي فأبى عليه ذلك فتقدم حكيم وقاتلهم حتى قتل كثير ممن معهم وهرب بقيتهم فجاء الزبير وطلحة بمن غزا المدينة منهم فقُتلوا إلا حرقوص بن زهير فإن عشيرته منعته
وكانت هذه الواقعة لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأقامت بعدها أم المؤمنين ومن معها بالبصرة
أما أمير علي بن أبي طالب فإنه لما بلغه وهو بالمدينة مسير عائشة وقد عبأ جيشه إلى الشام دعا وجوه أهل المدينة وقال لهم إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم فانتدب معه الناس وثقل آخرون فخرج من المدينة وهو يرجو أن يلحق الزبير وطلحة قبل أن يصلا البصرة واستخلف على المدينة سهل بن حنيف فلما وصل الربذة أتاه خبر سبقهم فأقام بها وأرسل محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر يستنفران الناس وكتب معهم كتابًا إلى أهل الكوفة هذه صورته إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين الله أنصارًا وأعوانًا وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانًا
وكان من رأي أبي موسى الأشعري أمير الكوفة قعود الناس عن هذه الفتن فلما سأله أهل الكوفة عن الخروج إلى علي والقتال معه قال إنما هما أمران القعود في سبيل الآخرة والخروج في سبيل الدنيا فلم يخرج مع ابن أبي بكر وابن جعفر أحد فأغلظا لأبي موسى فقال لهما والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما فإن لم يكن بد من القتال فلا نقاتل أحدًا حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا
فرجعا إلى علي بالخبر فلقياه بذي قار فأرسل بدلهما مالك بن الحارث الأشتر وعبد الله بن عباس فلما قدما الكوفة كلما أبو موسى واستعانا عليه بنفر من أهلها فقام وخطب الناس وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال
أيها الناس إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه وإن لكم علينا لحقًا وأنا مؤد إليكم نصيحة؛ كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على الله وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة وهذه فتنة صماء النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب والراكب خير من الساعي فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فأغمدوا السيوف وأنصلوا الأسنة وقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة
فرجع ابن عباس والأشتر إلى على بالخبر فأرسل الحسن بن علي وعمار ابن ياسر فأقبلا حتى دخلا المسجد فقال الحسن لأبي موسى لم تثبط الناس عنا فوا الله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء فقال
صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب وقد جعلنا الله إخوانًا وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا
فكثر الجدال بين الناس فمن محرض على الخروج مع أمير المؤمنين ومن مثبط عنه فقام القعقاع بن عمرو وقال يا أهل الكوفة إني لكم ناصح وعليكم شفيق أحب إليكم أن ترشدوا ولأقولن قولاً هو الحق أما ما قال الأمير أبو موسى فهو الحق ولكن لا سبيل إليه؛ إنه لابد من إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم وتعز المظلوم وهذا أمير المؤمنين ولى بما ولى وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى ومسمع
وقال سيحان بن صوحان من زعماء الكوفة أيها الناس إنه لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس وهذا وليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فمن نهض إليه فإنا سائرون معه
وقال الحسن بن علي أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه والله لأن يدعيه أولو النهي أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم وإن أمير المؤمنين يقول قد خرجت مخرجي هذا ظالمًا أو مظلومًا وإني أذكر الله رجلاً رعى حق الله إلا نفر فمن وجدني مظلومًا أعانني ومن وجدني ظالمًا أخذ مني والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر فهل استأثرت بمال أو بدلت حكمًا فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر
فأثر فيهم هذا القول ورضوا بالخروج فنفر معه قريب من تسعة آلاف ثلث في نهر الفرات والباقون ركبانًا معه فلما التقوا بأمير المؤمنين رحب بهم وقال لهم يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم وقد دعوتكم تشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن رجعوا فذاك الذي نريد وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤوا بظلم ولم ندع أمرًا فيه إصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله
ثم ندب القعقاع بن عمرو ليكون بينه وبين طلحة والزبير وقال له اذهب فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة ثم قال له كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس فيه وصاة؟ قال نلقاهم بالذي أمرت به فإن جاء منهم ما ليس عندنا فيه منك رأى اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى أنه ينبغي قال أنت لها
فقدم القعقاع البصرة وبدأ بأم المؤمنين فقال لها أي أمه؟ ما أقدمك هذه البلدة؟ قالت أي بني الإصلاح بين الناس قال فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهم فحضرا فقال القعقاع إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح بين الناس فما تقولان أنتم؟ متابعان أم مخالفان؟ قالا متابعان قال فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا يصلح قالا قتلة عثمان فإن هذا الأمر إن ترك كان تركا للقرآن قال قد قتلتم قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتما قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم يوم قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه منكم ستة آلاف فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولان وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير
قالت أم المؤمنين فماذا تقول أنت؟ قال أقول إن هذا الأمر دواؤه التسكين فإن سكن اختلجوا فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كان علامة شر فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم ولا تعرِّضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم وأيم الله إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل فإن هذا الأمر الذي حدث ليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل
قالوا قد أصبت وأحسنت فإن رجع عليّ وهو على مثل رأيك صلح الأمر
فرجع إلى علي وأخبره الخبر فأعجبه ذلك وأشرف القوم على الصلح وأقبلت وفود أهل البصرة على إخوانهم من أهل الكوفة لينظروا ما رأى إخوانهم فوجدوا الجميع متفقين على الصلح ولا يخطر لهم قتال إخوانهم ببال فرجعوا إلى البصرة وأخبروا من بها بهذا الخبر السار وقام على خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وذكر شقاوة الجاهلية وسعادة الإسلام وإنعام الله على الأمة بالجماعة على الخليفة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا حسدوا من أفاءها الله عليه وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها والله بالغ أمره ألا وإني راحل غدًا فارتحلوا ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء من أمور الناس وليعن السفهاء على أنفسهم
فلما سمع السبئية أصحاب سبأ مقالة على سقط في أيديهم ورأوا أن ضرر هذا الصلح إنما يعود عليهم لأنه إن تم كان على قتلهم وتشاوروا فيما يفعلون لمنع هذا الصلح فقال لهم رئيسهم الضال والدخيل في الإسلام ياقوم إن عزكم في خلطة الناس فإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر فمن أنتم معه لا يجد بدًا من أن يمتنع ويشغل الله عليًا والزبير وطلحة ومن رأى رأيهم عما تكرهون فأجمعوا على رأيه ولا يشعر الناس بذلك
فلما أصبحوا سار على وسار إليه طلحة والزبير فالتقى الجيشان خارج البصرة فسأل عليًا بعض أصحابه عما سيفعله فقال الإصلاح وإطفاء الثائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة ويضع حربهم قال فإن لم يجيبوا؟ قال تركناهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا؟ قال دفعنا عن أنفسنا قال فهل لهم من هذا مثل الذي عليهم؟ قال نعم وقام إليه آخر فقال أترى لهؤلاء القوم من حجة في هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال نعم قال أفترى لك حجة بتأخير ذلك؟ قال نعم قال فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدًا؟ قال إني لأرجو ألا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الجنة ثم قال أيها الناس املكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم أن تسبقونا فإن المخصوم غدًا من خصم اليوم
ثم أرسل إلى طلحة والزبير إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر فأجابا
ثم خرج الزبير على فرسه بين الجيشين فقيل لعلي هذا الزبير! فقال أما إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله أن يذكر وخرج طلحة أيضًا فخرج إليهما عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهما فقال لعمري لقد أعددتما سلاحًا ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذرًا فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما فهل من حدث أحل لكما دمي؟ فقال طلحة ألّبت على عثمان فلعن على قتلة عثمان ثم قال أما بايعتني؟ قال بايعتك والسيف على عنقي ثم ذكر الزبير بأشياء كثيرة يلين بها قلبه وقال أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غانم فنظر إلى فضحك وضحكت إليه فقلت له لا يدع ابن أبي طالب زهوه فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمزه لتقاتلنه وأنت ظالم له.