شعره وخصائصه الفنية:
شعر المتنبي كان صورة صادقة لعصره، وحياته، فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات، واضطرابات، ويدلك على ما كان به من مذاهب، وآراء، ونضج العلم والفلسفة. كما يمثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تجلت القوة في معانيه، وأخيلته، وألفاظه، وعباراته.وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة.
أغراضه الشعرية
المدح
اشتهر بالميدح، وأشهر من مدحهم سيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي، ومدائحه في الأول تبلغ ثلث شعره، وقد استكبر عن مدح كثير من الولاة والقواد حتى في حداثته. ومن قصائده في مدح سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف *** كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً *** ووجهك وضاحٌ ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى *** إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم
الوصف
أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخياً. كما أنه وصف الطبيعة، وأخلاق الناس، ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد قال يصف شِعب بوَّان، وهو منتزه بالقرب من شيراز :
لها ثمر تشير إليك منه *** بأَشربةٍ وقفن بلا أوان
وأمواهٌ يصِلُّ بها حصاها *** صليل الحَلى في أيدي الغواني
إذا غنى الحمام الوُرْقُ فيها *** أجابته أغانيُّ القيان الفخر
لم ينسى المتنبي نفسه حين يمدح أو يهجو أو يرثى، ولهذا نرى روح الفخر شائعةً في شعره.
وإني لمن قوم كأَن نفوسهم *** بها أنَفٌ أن تسكن اللحم والعظما
الهجاء
لم يكثر الشاعر من الهجاء. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيراً ما يلجأ إلى التهكم، أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد الفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وقال يهجو طائفة من الشعراء الذين كانوا ينفسون عليه مكانته:
أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ *** ضعيف يقاويني ، قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل *** وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل
وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه *** وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل
وما التِّيهُ طِبِّى فيهم ، غير أنني *** بغيضٌ إِلىَّ الجاهل المتعاقِل الرثاء
للشاعر رثاء غلب فيه على عاطفته، وانبعثت بعض النظرات الفلسفية فيها. وقال يرثى جدته:
أحِنُ إلى الكأس التي شربت بها *** وأهوى لمثواها التراب وما ضمَّا
بكيتُ عليها خِيفة في حياتها *** وذاق كلانا ثُكْلَ صاحبه قِدما
أتاها كتابي بعد يأس وتَرْحَة *** فماتت سروراً بي ، ومِتُ بها غمَّا
حرامٌ على قلبي السرور ، فإنني *** أَعُدُّ الذي ماتت به بعدها سُمَّا الحكمة
اشتهر المتنبي بالحكمة وذهب كثير من أقواله مجرى الأمثال لأنه يتصل بالنفس الإنسانية، ويردد نوازعها وآلامها. ومن حكمه ونظراته في الحياة:
ومراد النفوس أصغر من أن *** نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يُلاقي المنايا *** كالحات ، ويلاقي الهوانا
ولو أن الحياة تبقى لحيٍّ *** لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ *** فمن العجز أن تكون جبانا
منزلته الشعرية
لأبي الطيب المتنبي مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء.
المتنبي والنامي:
النامي كان قامة شعرية شامخة في بلاط سيف الدولة، ولم تكن منزلته لدى أمير حلب أقل من منزلة المتنبي. لكن الأيام طمست اسمه وضاعت روائع آثاره. ذكر ابن فورَّجة في "التجني على ابن جني" قال: "إن المتنبي كان على كثرة شعراء سيف الدولة لا يتَّّقي منهم غير أبي العباس أحمد بن محمد المصِّيصي المعروف بالنامي".
تحياتي ...