قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله تعالى-:
أريد أن أتكلم بإيجاز عن معاني آية الكرسي؛ فإنَّها أعظم آية في كتاب الله، وورد في فضلها أحاديث كثيرة، وفي بيان عظم شأنها أحاديث.
ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأحد القرَّاء من كبار الصحابة أبيِّ بن كعب -رضي الله عنه- قال : «يَا أَبَا المُنذِرِ، أَتَدرِي أَيُّ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ أَعظَمُ؟ قَالَ: قُلتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ.
قَالَ: يَا أَبَا المُنذِرِ، أَتَدرِي أَيُّ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعظَمُ؟ قَالَ: قُلتُ: ﴿اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدرِي وَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَهنِكَ العِلمُ أَبَا المُنذِرِ»().
أدرك هذا الصحابي –رضي الله عنه- أن هذه الآية أعظم آية في كتاب الله، وهنأه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الفقه، ما تلقى هذا الأمر من رسول الله، إنَّما تفقه في كتاب الله، فأجابه بهذه الإجابة التي تدل على عمق فهمه وحسن تدبره لكتاب الله، فقال: «لِيَهنِكَ العِلمُ».
هذه الآية ذكر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فيها التَّوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات وعظمته وجلاله -سبحانه وتعالى-،﴿اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ إثبات توحيد الإلوهية الذي خلق الأولين والآخرين من أجله، وخلق من أجله الجنة والنار، وأرسل من أجله الرسل وأنزل من أجله الكتب ﴿اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ لا إله إلا الله معناها؛ لا معبود بحق إلا الله.
وهذا المعنى على اختصاره ووجازته ووضوحه ضيعه أهل البدع والضلال، وسنَّ لهم هذا الضياعَ أهلُ الباطل الذي حذَّر منه أهل الإسلام وحذَّروا من أهله وحذَّروا من كتبه، ففسَّروا (لا إله إلا الله) بأنه: لا خالق ولا رازق، وتأثَّر بهم أهل الأهواء والضلال، وصاروا يفسِّرون توحيد الألوهية الواضح الذي بعث الله به جميع الأنبياء لمواجهة المشركين والأمم الضَّالة وطمسوا معالمه بهذا التفسير، لا خالق لا رازق.
نعم ربنا هو الخالق الرازق والآيات في ذلك كثيرة؛ ولكن ليس هذا معنى (لا إله إلا الله)، معنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، إبطال عبادة الأوثان والأشجار والأحجار والجن والإنس والملائكة، وتخصيص العبادة بالله وحده الواحد القهار.
فالعبادات من الصلاة والزَّكاة والصوم والحج والدعاء والتوكل والخوف والرغبة والرهبة، كلها وغيرها من العبادات لا يجوز أن يُصرف منها ذرة لغير الله-عز وجل- ، لا لأنبياء ولا لغيرهم من مخلوقات الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ولا من الأنداد التي اتُّخذت مع الله مع الأسف الشديد، فيجب أن نفقه هذا التَّوحيد الذي بُعث به جميع الأنبياء وأن ننشره في النَّاس؛ فإن أهل البدع ينشرون باطلهم، وهناك جماعات ومدارس تقوم على هذا التَّفسير الباطل، فيضلون في معنى (لا إله إلا الله) هذه الكلمة العظيمة التي ذكرنا من شأنها وأنها بُعث من أجلها جميع الرسل، وأنزل من أجلها الكتب، وخلق من أجلها الجنة والنار، والناس يُسألون عنها في القبور: من ربك ؟ يقول: الله ربي. من نبيك؟ يقول: محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيِّي.
هذه جملة تدور حولها هذه الرِّسالات كلها، تدور حولها آيات كثيرة وكثيرة في القرآن الكريم، وتتبَّعوا ذلك في القرآن.
ثم وصف الله نفسه بأنه الحي القيوم، الحي الحياة الدائمة التي لم يسبقها عدم ولا يعقبها شيء، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم -سبحانه وتعالى-، هو الأول قبل كل شيء، والظاهر على كل شيء، والباطن الذي لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى-، والحي يتضمَّن جميع الأسماء والصفات؛ لأنه حي حياة كاملة، وتستلزم صفات الكمال كلها صفة السمع والبصر والقدرة والإرادة وسائر صفاته -سبحانه وتعالى-.
والقيوم القائم بنفسه والقائم على كل شيء، وقيوم السَّموات والأرضين -سبحانه وتعالى- يدبِّر هذا الكون، ويصرِّفه وهو قائم عليه، وهو قائم على كل نفس -سبحانه وتعالى- بعلمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته -سبحانه وتعالى-، فالقيوم يتضمن جميع صفات الأفعال، ويتضمن توحيد الربوبية أيضًا؛ يتضمن الخلق والرزق والإحياء والإماتة وما شاكل ذلك ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود:107].
ثم ذكر ما يبيِّن كماله -سبحانه وتعالى- في هذه الحياة والقيومية، فقال: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، وهذا من كمال حياته وقيوميته، هو يدبر هذا الكون، وينظِّمه، ويمسك السَّموات أن تقع على الأرض -سبحانه وتعالى-، فلا تأخذه سنة ولا نوم، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ لأن هذه من صفات الضعفاء، وعباده الفقراء المساكين يجعلها راحة لهم من التعب، ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبإ: ٩]. تعالى الله علوًّا كبيرًا عن ذلك.
﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ بيَّن ملكه الواسع، وأن هذا الكون كله ملك له -سبحانه وتعالى- خاص به لا يشركه أحد في مثقال ذرة -سبحانه وتعالى-، السَّموات والأرضين والعرش والكرسي والجنة والنار والمخلوقات كلها؛ الله وحده المنفرد بخلقها والمنفرد بملكها -سبحانه وتعالى- ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملك عظيم، ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران:26].
هو الملك وهو مالك يوم الدين -سبحانه وتعالى-، ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر:16]، فتذكروا من هذه الآيات عظمة الله -سبحانه وتعالى-، وعظِّموه حق تعظيمه، وهابوه كل الهيبة، وقوموا بالحقوق التي أوجبها عليكم لمصلحتكم أنتم، الله أكبر؛ هذه العبادات فيها مصالح للعباد، المرء يتوضأ؛ يغسل يديه فتسقط كل معصية اكتسبها بيديه، ويغسل وجهه فتسقط كل معصية نظر إليها بعينه، وإذا ختم الوضوء هذا بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله، فتحت له أبواب الجنة، ألا ترى هذه مصلحة الوضوء، فكيف بالصلاة، وكيف بالزكاة، كيف بسائر العبادات، فما يشرع الله لعباده من أمر إلا لحكمة وإلا لمصالح عباده -سبحانه وتعالى- الرءوف الرحيم.
ولا يسخط العبادة إلا الكافرون والمنافقون، وأما المؤمن فيتلذذ بهذه العبادة ويطمع في عفو الله وجوده وكرمه -سبحانه وتعالى-، الأنبياء يعبدون الله رغبًا ورهبًا، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90]. يقول ضُلَّال الصُّوفية: لا نعبد الله طمعًا في جنَّته ولا خوفًا من ناره.
جعلوا أنفسهم فوق الأنبياء، انظروا الضلال كيف يجر إليه الشيطان إلى هذه الدرجة، الأنبياء يعبدون الله خوفًا ورغبًا، لا يكون العبد مؤمنًا إلا إذا خاف الله وراقبه في كل شئونه، خوف العبادة أصل أصيل في العبادات، وإذا فقده المرء خرج من دين الله -عز وجل-، إذا كان لا يخاف الله ولا يرغب فيما عنده يخرج من دينه، رسول الله كان أخشى الناس لله، «وَاللَّهِ إِنِّي لأَخشَاكُم لِلَّهِ وَأَتقَاكُم لَهُ»(.
وكان إذا دخل إلى الصَّلاة يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل خوفًا من الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ولا يخاف من الله إلا من قَدَّره حق قدره وعظَّمه حق تعظيمه، فنعوذ بالله من إخوان الشياطين.
﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ﴾ عظيم جليل، ﴿هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر:23-24].
سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، رب السَّموات والأرضين الجبار المتكبر فلا يرضى لأحد أن يتقدم بين يديه، حتى الشفاعة؛ لا يشفع عنده أحد إلا بعد أن يأذن، الأنبياء جميعًا يوم القيامة يعتذرون عن الشفاعة، تنزل الهموم والكروب والأهوال بالناس في عرصات القيامة، يقولون: «علَيكُم بِآدَمَ، فَيَأتُونَ آدَمَ عليه السلام فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنتَ أَبُو البَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَد بَلَغَنَا؟! فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيتُهُ، نَفسِي نَفسِي نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى نُوحٍ.
فَيَأتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهلِ الأرضِ، وَقَد سَمَّاكَ اللَّهُ عَبدًا شَكُورًا اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ؟! فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي -عز وجل- قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ، وَإِنَّهُ قَد كَانَت لِي دَعوَةٌ دَعَوتُهَا عَلَى قَومِي، نَفسِي نَفسِي نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى إِبرَاهِيمَ.
فَيَأتُونَ إِبرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبرَاهِيمُ، أَنتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِن أَهلِ الأرضِ اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ؟! فَيَقُولُ لَهُم: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ، وَإِنِّي قَد كُنتُ كَذَبتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ...».
ويعتذر آدم، يعتذر ويذكر ذنبه، يذكر معصيته؛ «وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيتُهُ» أكله من الشجرة رغم أنه تاب منها توبة عظيمة، ومع ذلك لا يزال الحياء من الله يلاحقه، تاب إلى الله وأناب وعَبَدَه -الله أعلم- مئات السنين؛ لأن حياته كانت طويلة، ومع ذلك لا يزال خجلًا حيِيًّا من الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يستحي أن يشفع لأنه نهاه عن تلك الشجرة فأكل منها، ما نسيها، هكذا المؤمن، نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا إلى التوحيد ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، وما يزدادون إلا كفرًا وضلالًا وعنادًا، فدعا عليهم فأهلكهم الله، فيقول: «وَإِنَّهُ قَد كَانَت لِي دَعوَةٌ دَعَوتُهَا»، فيعتذر وهي دعوة حق، والله أيَّده في ذلك وانتقم له من أعدائه، ومع ذلك جعلها عذرًا، الحياء من الله أمر عظيم، في النبوات الأولى: «إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَّاسُ مِن كَلَامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَم تَستَحِ فَاصنَع مَا شِئتَ»(). فالحياء خلق عظيم جدًّا جدًّا، يجب أن يتحلى به المؤمن.
وإبراهيم -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- اعتذر، ((وَإِنِّي قَد كُنتُ كَذَبتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ)). وهي تورية في الله-عز وجل- ليست كذبًا حقيقيًّا: لما عزم على تحطيم الأصنام التي اتخذوها أندادًا مع الله-عز وجل- ، وهذا عمل عظيم لا يلحق أحد فيه إبراهيم إلا محمدًا -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الذي حطَّم الأصنام، قال: إني سقيم، فلما ذهبوا، أخذ معوله وذهب يحطم الأصنام ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصافات:93]. ذكر الله قصته في عدد من السور، الشاهد أنه اعتبر هذه كذبة يستحي من الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يوم القيامة أن يشفع.
الثانية: أنه لما هاجر في الله -سبحانه وتعالى- من بلاده العراق إلى الأرض المباركة مر على طاغية؛ سلطان جبار قال له زبانيته الأخِساء: إن هنا رجلًا مَرَّ بامرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، أجمل النساء، عرف إبراهيم ذلك، فقال لها: إذا جئت عنده قولي: إن هذا أخي -لأن إبراهيم اعتقد لو عرف أنه زوجها لقتله- لأنك أنت أختي في الله، ما هنا مسلم إلا أنا وأنت -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
هذه اعتبرها كذبة يخجل منها يوم القيامة، كم يكذب الإنسان في أيام حياته وينسى كل هذا الكذب، ونعوذ بالله من الكذب الذي هو من أخبث الصفات؛ بل هو ركن من أركان الكفر بالله -سبحانه وتعالى-، وإبراهيم لم يكذب، بل هي تورية وكلها في الله -عز وجل- واعتذر عن الشفاعة.
((اذهَبُوا إِلَي غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ؟!
فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ، وَإِنِّي قَد قَتَلتُ نَفسًا لَم أُومَر بِقَتلِهَا، نَفسِي نَفسِي نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى عِيسَى.
فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ، وَكَلَّمتَ النَّاسَ فِي المَهدِ صَبِيًّا، اشفَع لَنَا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ؟!
فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لَم يَغضَب قَبلَهُ مِثلَهُ، وَلَن يَغضَبَ بَعدَهُ مِثلَهُ -وَلَم يَذكُر ذَنبًا- نَفسِي نَفسِي نَفسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
فَيَأتُونَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الَأنبِيَاءِ، وَقَد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشفَع لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحنُ فِيهِ؟! فَأَنطَلِقُ فَآتِي تَحتَ العَرشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي -عز وجل- ثُمَّ يَفتَحُ اللَّهُ عَلَي مِن مَحَامِدِهِ وَحُسنِ الثَّنَاءِ عَلَيهِ شَيئًا لَم يَفتَحهُ عَلَى أَحَدٍ قَبلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارفَع رَأسَكَ، سَل تُعطَه، وَاشفَع تُشَفَّع، فَأَرفَعُ رَأسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ. فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدخِل مِن أُمَّتِكَ مَن لَا حِسَابَ عَلَيهِم مِنَ البَابِ الَأيمَنِ مِن أَبوَابِ الجَنَّةِ، وَهُم شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأبوَابِ)).
موسى يعتذر؛ لأنه قتل القبطي الكافر المعتدي، قتله بغير إذن من الله فاعتبر هذا ذنبًا خجل منه أن يتقدم إلى الشفاعة، ويحيل إلى عيسى وعيسى يحيل إلى محمد -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فيقول: «أنا لها», فيذهب فيخرُّ ساجدًا تحت العرش فيدعو ويدعو ويدعو دعاء طويلًا، ثم يستأذن في الشفاعة فيؤذن له، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ﴾ من الذي يستطيع أن يشفع عند الله -عز وجل- العظيم الجليل؟ لا يستطيع أحد إلا بإذنه، والشفاعة ملك لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
﴿قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر:44]. ولهذا لا يجوز أن تطلب من الأموات ولا الغائبين، وتطلب من الحي أن يشفع لك، أمَّا الميِّت فإذا طلبت منه الشفاعة فقد طلبت منه حقًّا خالصًا لله، لا يحصل إلَّا لمن أذن الله له -سبحانه وتعالى-.
﴿قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ الروافض والقبوريون يطلبون الشفاعة من الأموات؛ بل يذبحون لهم؛ بل يستغيثون بهم، بل يعتقدون فيهم أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون، ما وقفوا عند الشرك في الألوهية؛ تجاوزوا ذلك إلى الشرك في الربوبية، ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّـهُ﴾ [النمل:65]. -سبحانه وتعالى-.
والله يقول لنبيه أفضل البشر وأقربهم إليه: ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّـهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام:50].
﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:188].
فيعتقدون في الأولياء، وبعضهم في غير الأولياء، وبعضهم معبودات من الحيوانات، من مكائد أهل الضلال والإلحاد قد يقبرون حيوانًا حمارًا أو غيره، ويقولون: هذا ولي، فيُقبل الجهلة والسفهاء وضلال الصوفية على هذا القبر يقدِّسونه ويطوفون به ويطلبون منه ما لا يُطلب إلا من الله -سبحانه وتعالى-، وهذا ينافي توحيد الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
الشَّاهد: أنَّ الشَّفاعة ملك الله -سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن تُطلَب من حي ولا ميت، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، والأنبياء لا يشفعون عند الله إلا بإذنه ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ﴾ [النجم:26]. منهم جبريل, ميكائيل فيهم ملَك الجبال، فيهم ملَك أذن لنبيه أن يتكلم عنه بين شحمة أذنيه وعاتقه كما بين السماء والأرض، وملك يستطيع أن يأخذ الجبال يضرب بعضها ببعض، ورسول الله -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- جاءه ملك الجبال وقال: ((وَأَنَا مَلَكُ الجِبَال،ِ وَقَد بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيكَ لِتَأمُرَنِي بِأَمرِكَ، فَمَا شِئتَ، إِن شِئتَ أَن أُطبِقَ عَلَيهِمُ الَاخشَبَينِ)) على كفار قريش، هؤلاء الملائكة العظام، وجبريل له ستمائة جناح تغطي بين السَّماء والأرض، ومع ذلك يتضاءلون أمام عظمة الله خوفًا وإجلالًا وتعظيمًا.
هؤلاء الملائكة لا يشفعون عند الله إلَّا من بعد إذنه.
صارت الشَّفاعة لعبة عند الجهلة والسُّفهاء والضُّلال، نسأل الله العافية.