تعليم الفنون القتالية فى اليابانأدى صدور تعليمات جديدة حول تعليم الفنون القتالية في المدارس الإعدادية باليابان لاحتدام الجدل والنقاش حول موضوع السلامة والأمان عند ممارسة هذا النوع من الرياضة. يقوم خبير الفنون القتالية الباحث الاكاديمي يوشيو نوري كونو باستعراض مشكلة التعليم الإجبارى لفنون القتالية بالمدارس وأوجه الإعتراض.حكم اليابان طبقة من الجنود المحاربين يطلق عليهم الساموراي لمئات السنين حتى بداية عصر ميجي الذى بدأ معه الإصلاح والتفكير فى إقامة دولة حديثة عام ١٨٦٨. وكان لهذا النظام الذي استمر بحكم البلاد على مدى عدة قرون ميزة سادت الفكر الشعبي حول تصوراليابان، وقد انتشرت تلك الفكرة بفضول واهتمام حول اليابان في مختلف بقاع العالم. وبالتأكيد فقد كان هنالك البعض من الناس ممن تصور بأن المواطن الياباني العادي خضع ومازال حتى يومنا هذا للتدريب على الفنون القتالية التقليدية، ولكنه شيئ بعيد كل البعد عن الحقيقة. وقد زاد الجدل حول سياسة الحكومة التى دخلت حيز التنفيذ في إبريل / نيسان من هذا العام التى تقضى بجعل تعليم الفنون القتالية مادة اجبارية ضمن برامج مواد التدريس لطلبة المدارس الإعدادية. بدأت تللك السياسة الجديدة بإثارة عاصفة من الإنتقاضات ومن المتوقع أيضاً زيادتها فى المستقبل. ولقد قمت بتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقي في هذا الصدد وذلك بناء على فهمي لتاريخ وتطور وأهداف تلك الفنون القتالية.
لمحة تاريخية عن الفنون القتالية في اليابان
اتسمت نخبة الساموراي خلال عصرا إيدو (١٦٠٣- ١٨٦٨) بصفات تختلف عن معظم الحكام العسكريين الآخرين في الانتماء الى طبقة معينة أزلية وأبدية في ذات الوقت فقد تبوأت طبقة الساموراي هذه مكان القمة في الهرم الاجتماعي المميز آنذاك والذي حدد معالم الثقافة اليابانية قبل التحديث. وكان كل من فئات المزارعين، وأصحاب الحرف اليدوية والتجارعلى التوالي وحسب الترتيب السابق يصنفون دوما تحت طبقة الساموراي وقد يعبّر النظام الطبقي إبان فترة عصر ايدو نظريا بأنه نظام صارم ولا يعترف بالمرونة، ولكنه عمليا سمح بممارسات على درجة كبيرة من المرونة. فعندما منع فعليا المزارعين وسكان المدن والبلدات الذين يشكلون بدورهم ما يعرف بالمواطنين العاديين من دراسة الفنون القتالية، كان هنالك تساهلاّ في تنفيذ وسريان مفعول ذلك المنع عليهم، لاسيما في المدن والبلدات التي تخضع مباشرة لحكم “توكوجاوا“، حيث كان فيها الامر بديهيا لأولئك الراغبين من المزارعين وسكان المدن دراسة فنون الساموراي.
وفي الواقع فإن جماعة شين سن غومي الشهيرة وهي قوة شبه عسكرية تم تشكيلها في نهاية عصر إيدو لمحاربة الثوار آنذاك الطامحين الى قلب نظام حكم الشوجون .اعتمدوا بشكل كبير على الأشخاص المولودين من خارج طبقة الساموراي بما فيهم قائدهم الشهير ”كوندو ايامي“ ونائبه ”ميجي كان توشي زوو“ وكلاهما من المزارعين أصلا بالولادة. ومع ذلك فمن السهل القول بأنه لم يكن أيّ من هؤلاء الأبطال مكرها ومجبرا على تعلم المبارزة بالسيف، ولم تكن دوافع أولئك سوى إعجابهم الخاص بالساموراي والفنون القتالية والمزايا التي كان يتمتع بها الساموراي. لكن ذلك كله تغيّر مع بداية عصر الإصلاح-عصر ميجي الإصلاحي – حيث ألغت حكومة ميجي الساموراي وقدمت نظاما شاملا للالتحاق بالجيش حيث يتطلب ويفترض من كل شخص من الذكور مؤهل صحيا وقادر على الخضوع لتدريب عسكري سواء كان يرغب ذلك ويرضى به ام رافضا له ويأبى قبوله. وبعد الحرب العالمية الثانية، سعت قيادة الاحتلال الأمريكي في بادئ الأمر إلى قمع كل جهد يتعلق بالفنون القتالية وذلك كجزء من جهود تلك القيادة لإلغاء كافة المظاهر العسكرية. ولكن سرعان ما تخلت إدارة الاحتلال عن هذه السياسة بعدما أخذت بالتركيز على تقوية اليابان كحليف لها في الحرب الباردة،. وقد عاودت الفنون التقليدية القتالية كالجودو والكندو نشاطاتها تدريجيا خلال فترة ما بعد الحرب وأخذت تلقى أصداء إيجابية لدى الشعب كرياضة يجري دوما التنافس على إحراز الأولوية فيها كما لاقت مبادرة لجعل البودو جزءا مكملا من البرامج في المدارس الإعدادية والثانوية زخما ودعما خلال السنوات القليلة الماضية. وقد جادل مؤيدو تلك المبادرة بالقول بأن الطلب من الأطفال دراسة احدى مواد الفنون القتالية التقليدية قد يسهم في تنمية الاحترام لتقاليد وقيم الثقافة اليابانية. وقد أثمرت تلك المبادرة وتكللت بالنجاح حيث سيتوجب على كافة طلبة المدارس الإعدادية في البلاد اعتباراً من شهر أبريل / نيسان من هذا العام دراسة حصص في فنون القتال التقليدية، وهذا يعني على الأغلب مادة الجودو علما بان هنالك مدارس ستقدم خيارات إضافية مثل رياضة آيكيدو وكذلك الكيندو.
معارضة التعليم الإجبارى للفنون القتالية بالمدارس
بوصفي خبيراً في الفنون القتالية التقليدية فقد قامت العديد من وسائل الإعلام بالاتصال بي في مناسبات عدة لاستطلاع آرائي تجاه تلك السياسة الجديدة. من الصعب تجميع كل أفكاري وطرحها في كلمات معدودة، ولكنني سئلت ببساطة فيما اذا لو كنت من المؤيدين لتلك السياسة أم من المعارضين لها، فأجبت بأنني سأنحاز إلى المعارضين لها وهذا ليس بسبب ظهور العديد من المشاكل العملية لتطبيق تلك السياسة ولكن لأنني على قناعة أيضاً بأن هذه السياسة الجديدة لن تقدم شيئا ملموسا بصدد تعزيز الاحترام لقيم ومفاهيم الثقافة اليابانية التقليدية. فإذا أخذت الجودو على سبيل المثال كأوسع الرياضات انتشاراً من رياضات الفنون القتالية التقليدية التي يجري تعليمها في المدارس الإعدادية والثانوية اليابانية فإنه من المتوقع سيما وأن الغاية منها أي الجودو تكمن في إيقاظ الحس والتقدير لتراث اليابان الثقافي، لن تؤدي إلى توليد انطباع لدى الطلبة لمعرفة الوسائل وما اكتشفه أسلافنا وأجدادنا حول الاستفادة الصحيحة من أجسادنا واستخدام ذلك بصورة مثلى، ولكون تلك الرياضة تقدم من جانب آخر بديلا يحمل في طياته ألغازاً عميقة عن أساليب المصارعة المعروفة لدى الغرب. لذا فإن لدي شكوكا عميقة حول مدى قدرتها كما تمارس الآن على ترك انطباعات أو تقديم إيحاءات وحوافز في هذا الصدد. واذا كان لها الكثير مما تقدّم، فيجب ان يكون بالإمكان الإشارة إلى أثرها الفعلي العملي في القتال الفردي (اي شخص ضد آخر) وذلك مع رياضين ممن تدربوا على الطريقة الغربية. ففي الماضي كان هنالك عظماء أبطال ممن قاموا بهذا الأداء على أحسن وجه. مثل مؤسس رياضة الآيكيدو ”اوشيبا موري هيه“ إضافة الى البطل ”كاشيما شيزو“ . لكن من الصعب جداً إيجاد أي شخص في هذه الأيام يقوم بإلقاء الضوء على إنجازاتهم. ولعل الشيء الوحيد في هذه الأيام الذي يميّز الجودوعن فنون المصارعة الغربية يكمن في شروط الأداء فقط ولم يعد هناك أي فرق واضح بخصوص التدريب والاستفادة من الإستخدام البدني للجسم بصورة مثلى. فمثلا عند مباراة بين لاعب الجودو والمصارع العادي يمكن اعتبار عملية السقوط بجد ذاتها مناسبة للاعب الجودو سيما وانه يرتدي ملابس تلك الرياضة وان عمليات الإمساك بقبضة اليد ونحو ذلك تخضع لقوانين اللعبة. أما اذا انعكست الصورة وجرى اللعب بملابس المصارعة التقليدية وكانت قوانينها هي السائدة فإن الفائدة تذهب للمصارع العادي. لعل ما ذكرت من قبل هوالمعرفة المشتركة المتبادلة التي أصبحت تسود يومنا هذا.
فنون القتال بين الشرق والغرب
هنالك العديد من الأسباب التي أدت إلى الحالة المشار اليها في العنوان أعلاه. ولكن العامل الأساسي يبقى ما يعرف بالتغريب أي نشر الثقافة والمفاهيم الغربية فى الفنون القتالية التقليدية. ومن السنة الأولى لعصر ميجي (١٨٦٨-١٩١٢) كانت اليابان تواقة للاقتباس من الغرب ووصل ذلك إلى حد اعتماد الثقافة الغربية في بعض الأحيان في الصفقات التجارية بالجملة إضافة إلى حالات أخرى تتمثل في نقل كامل لها ووصفها في الأطر المختلفة للثقافة اليابانية. ولم تكن الفنون التقليدية القتالية اليابانية مستثناة من تلك العملية. وفي (الكندو) الحديثة مثلا يعتبر – الوضع الجيد- الرياضي بوجه عام بجعل الكتفين إلى الخلف وجعل الصدر إلى الأمام، وذلك على الرغم من ان وجهة النظر التقليدية تقول بأن الوضع المثالي للفارس الذي يحمل السيف مغايرا لذلك تماما، حيث يجب أن يكون الصدر منحنيا متراجعا بعض الشيء مع انحناءة منخفضة نسبيا للرأس وليس على النحو الذي يظهر به الفائز في المباريات التي تقام هذه الأيام. وينطبق نفس الشيء على أسلوب الإمساك بقبضة اليد لممسك (شين آي) وهو السيف الخشبي المصنوع من شجر البامبو (الخيزران) حيث تبلغ المسافة بين اليدين اليمني واليسرى بضع إنشات فقط (الانش الواحد يعادل ٢٫٥٤ سنتيمتراً) وان ذلك ليس سوى تطوير حديث جاء نتيجة لتجارب عملية حول المقابض المختلفة لآسيا عندما أصبحت الأنواع الطويلة منها في رواج وكان ذلك في نهاية عصر إيدو، وتؤكد قراءة عميقة للمراجع التقليدية ما يكتشفه المرء من خلال الممارسة العملية. فعندما تكون اليدان قريبتان من بعضهما البعض يتحول العبء من الأذرع إلى عضلات البطن الداخلية مما يعني تمكين الفارس من التحكم بسيفه بشكل سلس، ولعل هذه الفائدة تتجلى عند التعامل مع سيف حقيقي، ولكنها تنطبق أيضاً على الـ (شين آي). وهذه ليست سوى بعض الطرق التي تبيّنت فيها رغبات اليابانيين للاستفادة من الحضارة المتقدمة للغرب والتي أدت إلى تحول مهارات استخدام السيوف اليابانية الى الأسلوب الذي نراه الآن والذي أصبح فناً مختلفا كليا عما كان عليه فيما مضى.
كما ان رياضة (الجودو) المعاصرة هي نتاج لنفس المراحل التي مرت بها الـ (الكندو) وقد أدى التركيز على أساليب التعلم من الغرب في مطلع عصر ميجي الى إهمال الفنون القتالية اليابانية، بما في ذلك الـ (جو جيتسو). ونجح ”كانو هيو غورو“ في احياء الـ (جو جيتسو) على شكل الـ (جودو) من خلال التركيز على الجوانب العلمية، وبالاشارة إلى أصول الإمساك بقبضة اليد والذراع والإخلال بتوازن الخصم والرفع بشكل فني. لكنه قام خلال تلك العملية باستبعاد بعض المبادئ المتقنة والماكرة للحركات التي كانت الـ (جو جيتسو) القديمة تتسم بها بما في ذلك حركات معيّنة كان يقوم بها كبار المدربين في الماضي كافقاد الخصم توازنه بلمسة واحدة.
فن السقوط
مع دخول اليابان العصر الحديث، حولت ظاهرة التغريب كل من الـ (الكندو) والـ (جودو) الى رياضات مختلفة تماما عن الفنون القتالية التقليدية اليابانية التي اتسمت بالدقة وسرعة البديهة. لكنه من ناحية أخرى ونظراً لتراجع اللياقة البدنية في السنوات الأخيرة لدى الشعب الياباني فربما يمكننا القول بأن القيام بأي نشاط أفضل من لا شيء على الإطلاق. فمثلا عند فقدان التحكم بالقدمين، فإن الإنسان عرضة لخطر الإصابة بجروح أو رضوض في جسمه وغير ذلك نتيجة للسقوط على الأرض. ولذا كان تدريب الأطفال الصغار والتلاميذ على تقنيات السقوط وأصوله وآلياته الأساس الذي يمهد لتعلم الـ(الجودو) والـ (آيكيدو) في مرحلة الحضانة، وهذا الأمر من شأنه ان يساعد على تحسين اللياقة البدنية العامة وعلى التقليل من خطر الاصابة بجروح أو رضوض. وعلى الرغم من ان مسؤولية وزارة التربية والتعليم تكمن في صياغة سياسات التربية البدنية في هذا السياق، فإنني لا أتوقع منها في هذه المرحلة ان تعيد النظر فيما يتعلق بالأمور السابقة، ولكن اذا رغبت المدارس في تعليم الجودو فإنني أحثّها على بذل كل جهد ممكن لتعليم التلاميذ فن السقوط وآليته بشكل جيد من أجل تخفيف مخاطر الإصابات في فترات لاحقة.
وبودّي ان اقترح أيضا بأن أفضل طريقة للكبار لتدريب الصغار على الفنون القتالية تتلخص في تشجيع الطلاب المهتمين وتنمية روح الحماس في المراحل المبكرة. ويشير الواقع الى انه في كل مجال دراسي تقريبا، يحصل أولئك الذين يتتبعون المواد الدراسية بشغف ويولوها اهتمامهم الصادق على نتائج أفضل بكثير من أولئك الذين يجبرون على تعلمها.
أهمية الأنشطة البدنية للأطفال
وحسب نظريتي التي اؤمن بها، فإنه من الواجب ان يكون التعليم في المراحل الابتدائية مُنصبا بالدرجة الأولى على القراءة والكتابة والتاريخ وكذلك على التربية البدنية. فالقراءة والكتابة يشكلان عاملّي البناء الأساسيين لكل ما يأتي بعد ذلك. وفي تلك المرحلة يمكن للمواد العلمية مثل الحساب والعلوم ان تدمج ضمن مناهج التاريخ بحيث يتم عرضها كجزء من مفهوم الثقافة والحضارة الإنسانية منذ فترة ما قبل التاريخ. ولعل مثل هذا البرنامج التربوي التعليمي يثير فضول الأطفال الطبيعي والرغبة في التعلم. كما انني مقتنع أيضاً بأّن إدراج النشاط الرياضي في المدارس سيكون عاملا مؤثراً لتسهيل فهم الأطفال للدروس وتذكر ما تعلموهّ. فعند دراسة علم المثلثات يمكن للأطفال وضع ثلاثة أغصان على الأرض وبأبعاد مختلفة تتراوح بين ثلاثة أو أربعة أو خمس أمتار بعيداً عن بعضها البعض ثم ربطها بعدئذ بحبال أو خيوط محددين بذلك زوايا قائمة ونحو ذلك. ولعل هذا النوع من الدروس التي تجمع بين الرياضيات والانشطة الرياضية الابتدائية ستلقي بآثارها فيما بعد على الحياة العملية لهؤلاء الأطفال في عالمنا هذا، حيث تضيف اليهم مهارات يمكن الاستفادة منها في حالات عديدة ومتنوعة. وبالنسبة لي، فإن جميع الفنون القتالية التقليدية المتعلقة بالتعلم واكتساب الخبرة ستكون عرضة لمشاكل جدّية حتى لو كانت مباشرة. كما إنني على قناعة بأن اطلاع الأطفال على هذا النوع من التعلم العملي والقائم على الخبرة المكتسبة على مدى السنوات الماضية ستلقي بفوائدها جميعاً على تطوير مستقبلهم.
وفي عالمنا هذا الذي يزداد فيه الغموض والالتباس من جراء كوارث نووية وحكومات استبدادية بأشكال جلية فإن الفنون القتالية التقليدية تقدم وسائلا لا نظير لها لتطوير النظام والانضباط لدى التلاميذ لتعليمهم الاعتماد على النفس شريطة أن يتم ذلك بشكل مناسب. ومع هذا فلا يوجد هناك اي نفي قاطع لما قد تسببه الفنون القتالية من أذى اذا تم تعليمها وتعلمها بشكل غير صحيح. واذا ما نظرنا الى المجتمع الياباني في هذه الأيام، فإن استنتاجي يتلخص في انه قبل قيامنا نحن الكبار (المتقدمين بالسن) بالتركيزعلى أهمية القيم التقليدية في مخيلة وعقول أولادنا، من الواجب علينا أولاً تجميع قيمنا ومبادئنا ثم النظر الى معنى الحياة الإنسانية وفحواها دون ان يعمى أبصارنا السعي بلا توقف والجري بلا تبصر وراء الربح الاقتصادي.