مقال حول أصل المعرفة
الإشكال:هل المعرفة في أساسها تعود إلى الذهن أم أنها نابعة من الواقع؟
بعد تحليل المعرفة الإنسانية من مختلف النواحي من أبرز المشاكل الفلسفية التي إستقطبت اهتمام الفلاسفة منذ القرن السابع عشر حتى اليوم , و نظرية المعرفة عند الفيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أيا كانت الحقيقية المعروفة , و قد اختلف الفلاسفة لاختلاف مناهجهم في طريقة حصولنا على هذه المعرفة و التساؤل الذي يطرح نفسه: هل المعرفة ممكنة للإنسان أو مستحيلة و إذا كانت ممكنة هل يعرف الإنسان كل شيء بدون استثناء أم أن قدرته نسبية ؟ أو بعبارة أصح هل المعرفة في أساسها تعود إلى الذهن أم أنها نابعة من الواقع و التجربة؟.
يرى أنصار النظرية المثالية و على رأسها أفلاطون أن هناك عالمين , عالم الحس المحيط بنا, و علم الأشباح و الظلال؛ أما الأول فهو العالم المعقول( العلوي ) و هو الذي ينطوي على المعرفة الحقة, ومنه فهي غير ممكنة إلا فيه , فالتصور الذي لدينا على الخير و العدل و السعادة و الفضيلة لا تمثل حقيقتها , و الوصول إليها أمر مثالي و يرى أفلاطون أيضا أن } النفس قبل أن تحل بالبدن كانت تعلم كل شيء لكنها بحلولها في الجسم نسيت أصلها الذي هو المثل{, و لهذا و ضع برنامج في أكاديميته و غايته أن تتذكر النفس ذاتها , لكنه اشترط على كل من يرغب في هذه المعرفة أن يكون عارفا بالهندسة , أي يملك بعض مبادئ الاستدلال , كما يرى أن النفس لا تستطيع أن تبحث عن المعرفة إلا إذا احترقت حواجز البدن و تحررت من قيوده و هذا لا يتم إلا بالتأمل كما عبر لنا أفلاطون عن هذا قائلا: (إذا كانت النفس التي هبطت إلى هذا العالم قد نسيت علمها القديم , فإن وظيفتها خلال اقترانها بالبدن أن تطلب المعرفة , و من الواجب عن النفس الباحثة عن الحقيقة أن تمزق حجاب البدن أو تنجو من عبوديتها و أن تظهر ذاتها من كدورة المادة بالتأمل فإن الدورة لا تتفق مع نقاوة الحقيقة ) , و هذا يعني أن معرفة المثل تحصل بالعقل لا بالتجربة الحسية ؛ فإنه لمن التناقض أن يطلب الحقيقة الثابتة بوسائل متغيرة خاصة أن المثل لها طبيعة خالدة حتى و إن كانت الأشياء الخارجية تشترك معها في بعض الجوانب , وقد ذهب على شاكلة هذا الطرح الفيلسوف واركلي حيث يقول: ( إن ما نذكره من الموضوعات هو الذي نستطيع أن نقر بوجوده و نحن لا ندرك إلا تصوراتنا الذهنية فالعقل هو الحقيقة الذي نصنع به وجود الأشياء) و معنى هذا أن المعرفة علنية فكرية خالصة و تتأسس على مبادئ فطرية توجد في بنية العقل الذي تصدر عنه معرفتنا بجميع الأشياء و لا وجود لشيء في غياب عقل لا يدركه .
لقد أثبت علم النفس في مجال دراسته للنمو العقلي للطفل أن هذا الأخير لا يملك أي معرفة فطرية و لا أي أفكار من هذا النوع و كل ما هناك أنه يولد مزودا بخاصية الاكتساب (الاستعداد) الذي من خلاله يكتسب المعرفة و التدرج مع قدراته الذهنية بالإضافة إلى أن العلوم التجريبية أثبتت إمكانية المعرفة عن طريق الحواس و العقل معا فالقانون العلمي حقيقة اختبرت بالتجربة ثم بالتنبؤ و هذا دليل على صحته .
و على عكس الرأي الأول نجد أنصار النظرية الواقعية و التي جاءت لتهدم أساس التصور المثالي للمعرفة فهم يرون بأن مظهر الشيء الخارجي هو حقيقة و هي الحقيقة التي تنطبع في أذهاننا و تنقلب إلى معرفة تامة , إذن معرفتنا للأشياء الخارجية حسب هذه النظرية مباشرة و لا سبيل لتحقيقها إلا الحواس الظاهرة و هذا ما أكد عليه توماس ريد الذي دافع بشدة عن نظرة الإنسان العادي للأشياء أي عن الموقف الطبيعي الذي يعتقد اعتقادا راسخا في وجود الأشياء ,
و لا يناقش هذا الوجود أصلا , و كذلك نجد من ذهب على شاكلة هذا الطرح و هو جون لوك (1632-1704) الذي يقول: (إن الطفل يولد صفحة بيضاء و لا يوجد في العقل إلا ما مر في الحواس بحيث تنتقل صور المحسوسات و العقل بشكل منها صورا ذهنية) , و يرى دافيد هيوم أن فكرة العلة مكتسبة بفضل العادة فهي انطباع حسي وارد من التجربة فالعلة شيء سابق للآخر و مقترن به فالعقل لا يمكنه إنشاء المعارف بالاعتماد على نفسه و كل الأفكار التي هي لدينا نسخ معنوية و الحقيقة معيارية و في هذا يقول لامبير: (ليس هناك شيء يفوق إحساساتنا في عدم قابليته للجدل و هذا يكفي لإثبات أنها مبدأ معارفنا كلها).
إذن المعرفة نجد أساها في الحدوس الحسية التي تتحول إلى معان عامة يستخدمها العقل في عمليات التفكـــــــــير.
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد : بحيث أنه لا يمكننا أن نفكر قدرة العقل في إنشاء المعارف ففي الرياضيات مثلا قفز العقل إلى المجموعات الخالية و اللانهائية في الفلسفة و الموضوعات الميتافيزيقية و كل هذا لا يوجد مقابل له في الواقع ضف إلى ذلك أن الحقيقة ليست نسخة أو مطابقة له بل الفكرة هي إنشاء جديد يقوم به الفكر , ضف أيضا إلى ذلك أن الحواجز عاجزة عن الوصول إلى الخصائص المكونة لجوهر الشيء بدليل أنها تخدعنا حتى في معرفة المظاهر كرؤية السراب … , كذا بعد الأشياء و قربها عن العين (الرؤية) كرؤية الشمس , خدعة البصر مثلا نجدها قريبة جدا لكنها تبعد عنا بملايين الكيلومترات
العقل مضاء التجربة و العكس صحيح.
----------------------
بسم الله - حمل ما هو في الأعلى من هنا
مقالة أخرى خاصة بأصل المعرفة
السؤال :
لو كنت أمام موقفين متعارضين يرى أولهما أن المعرفة عقلية ولا دور للحواس فيها . في حين يذهب الآخر بأنها تجريبية مصدرها الحواس .وطلب منك تهذيب هذا التناقض فما عساك أن تفعل ؟
طرح المشكلة :
لقد إختلف الفلاسفة في تصور طبيعة المعرفة و أصلها ، فظهرت عدة نظريات تدل على تصورات مختلفة بإختلاف المشارب المذهبية والمنطلقات الفلسفية للفلاسفة فالعقلانيون اعتقدوا أن أصلها العقل وعكسهم التجربيون قللوا من فعاليته و مجدوا الحواس لأنها في نظرهم المسؤولة عن المعرفة . فهل أصل المعرفة العقل أم الحواس ؟وهل هي فطرية أم مكتسبة بالتجربة؟
محاولة حل المشكلة
الأطروحة الأولى :
يرى المذهب العقلاني ويمثله العديد من الفلاسفة أشهرهم أفلاطون ديكارت...أن المعرفة أصلها العقل ولا يمكن أن تكون الحواس لأنها تخدع وتزيف الحقائق و لا تنقلها كما هي . فقد ميز أفلاطون بين عالمين الحقيقي والمزيف الأول نرتقي إليه بالتأمل العقلي وفيه توجد كل الحقائق التي تعلمتها النفس حين كانت في عالم المثل فالمعرفة تذكر والجهل نسيان ، أما الثاني أي المزيف فهو العالم الذي تنقله الحواس وهو مجرد ظلال للعالم الحقيقي. أما ديكارت فاعتبر المعرفة فطرية وللوصول اليها اقترح منهجا مستلهما من المنهج الرياضي في كتابه الشهير(مقال في المنهج)، وهو عبارة عن أربعة قواعد رئيسية وهي: (الشك، تقسيم المشكلة إلى أجزاء، ترتيب الأفكار أو إعادة بناء المشكلة، مراجعة عامة للنتائج أو الإحصاء).
النقد : ولكن كيف يمكن للعقل وحده أن يبني معرفة يقينية دون الاعتماد على الحواس؟ولماذا يجهل الأعمى الألوان والأصم الأصوات ....؟ أليس هذا دليلا على دور الحواس في المعرفة ؟
نقيض الأطروحة :
ترى النظرية الحسيـــة أن معارفنا الإدراكية تنبع كلها من الإحساس و به تتحدد علاقتنا بالعالم الخارجي . قد ذهب الرواقيون و على رأسهم زينون إلى القول أن العقل لا يمكن له أن يؤسس معرفة إن لم يستمدها من الحس
كل ما هو موجود في العقل مر بالحواس . لأنه (أي العقل ) مجرد تلميذ يردد ما يقوله المعلم ( أي الحواس ) .
ودليلهم في ذلك أنه من فقد حاسة ما، فقد المعاني المتعلقة بها ، فالبرتقالة مثلا ، يصل إلينا لونها عن طريق البصر ، و رائحتها عن طريق الشم ، وطعمها عن طريق الذوق ، وملمسها عن طريق اللمس ، فلو تناول هذه البرتقالة كفيفا يدرك كل صفاتها إلا لونها ، فالكفيف لا يدرك الألوان ، و الأصم لا يدرك الأصوات ، فلولا الحواس لما كان للأشياء الخارجية وجودا في العقل إذن فكرتنا عن العالم الخارجي ليست سوى مجموعة من الإحساسات تحولت بحكم التجربة إلى تصورات ،فالمعرفة تكتسب بالتدريج عن طريق الاحتكاك بالعالم الخارجي و ما تحدثه الأشياء من آثار حسية و بالتالي لا وجود لأفكار فطرية أو مبادئ قبلية سابقة عن التجربة يقول جون لوك لنفرض أن النفس صفحة بيضاء فكيف تحصل على الأفكار ؟ إني أجيب من التجربة ، و منها تستمد كل مواد التفكير و التجربة أكدت لنا أن مجموع الإحساسات التي أتلقاها عن الشيء تمثل في مجموعها صورة الشيء (ماهيته) فلون الصبورة وشكلها وصلابتها في مجموعها تمثل ماهية الصبورة و بالتالي إحساسي بالصبورة هو إدراكي لها.
لقد أكد علم النفس الطفل أن هذا الأخير يكون أفكاره ومفاهيمه العقلية انطلاقا من الحواس ، لهذا نعتمد على الصور و الرسومات والألوان لتعليمه .
إن أفكارنا و تصوراتنا وما نحمله من معاني و مفاهيم ما هي إلا انعكاس لما رأيناه و شاهدناه في الواقع لان العمليات العقلية تتخذ من الواقع الحسي سبيلا لها . فالحواس هي النافذة التي يطل بها العقل على الطبيعة يقول دافيد هيوم "إن الألوان و الأصوات و الحرارة و البرودة كما تبدوا لحواسنا لا تختلف في طبيعة وجودها كما تكون عليه حركة الأجسام و صلابتها."
النقد : لا يمكننا أن نثق في الحواس لأنها كثيرا ما تخدعنا .فنحن نرى النجوم صغيرة والحقائق العلمية تؤكد أنها اكبر بملايين المرات مما نراها كما أن حواس الإنسان قاصرة ومحدودة. لو كانت المعرفة تقتصر على الحواس .لاشترك فيها الإنسان مع غيره من الحيوان.
التركيب : إن التناقض بين الموقفين أدى إلى ظهور موقف ثالث يقف موقف وسط بينهما إنه مذهب كانط النقدي ، الذي يقسم المعرفة إلى نوعين : * فطرية كالرياضيات و الحقائق اللاهوتية
*مكتسبة : تتم عن طريق الحواس والعقل فهي تمده بالمادة الأولية و هو بالتحليل والتركيب والاستنتاج يصل إلى القوانين أو الحقائق .
حل المشكلة
رغم الاختلاف الظاهر بين المذهبين إلا أنهما في الحقيقة متكاملان وتكاملهما
ظهر في المذهب النقدي . إذن المعرفة عقلية وحسية في آن واحد .
-------------------
بسم الله - حمل ما هو في الأعلى من هنا