من أحوال النساء في الجاهلية
من أحوال النساء في الجاهلية :
قَالَتْ زَيْنَبُ : سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ : لا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ . قَالَ حُمَيْدٌ فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلا مَاتَ ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ ؟ قَالَ : تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا ))[1]
( إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : فِيهِ إِشَارَة إِلَى تَقْلِيل الْمُدَّة بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ قَبْل ذَلِكَ وَتَهْوِين الصَّبْر عَلَيْهَا وَلِهَذَا قَالَ بَعْده " وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّة تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْس الْحَوْل " وَفِي التَّقْيِيد بِالْجَاهِلِيَّةِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْحُكْم فِي الإِسْلام صَارَ بِخِلافِهِ , وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا وُصِفَ مِنْ الصَّنِيع , لَكِنَّ التَّقْدِير بِالْحَوْلِ اِسْتَمَرَّ فِي الإِسْلام بِنَصِّ قَوْله تَعَالَى ( وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ) ثُمَّ نُسِخَتْ بِالآيَةِ الَّتِي قَبْل وَهِيَ ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْرًا ) .
( وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ ) ؟ أَيْ بَيِّنِي لِي الْمُرَاد بِهَذَا الْكَلام الَّذِي خُوطِبَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَة .
قَوْله ( كَانَتْ الْمَرْأَة إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجهَا دَخَلَتْ حِفْشًا إِلَخْ ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَة شُعْبَة : (( فَقَالَ لا تَكْتَحِل , قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُث فِي شَرّ أَحْلاسهَا أَوْ شَرّ بَيْتهَا , فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْب رَمَتْ بِبَعْرَةٍ , فَلا حَتَّى تَمْضِي أَرْبَعَة أَشْهُر وَعَشْر ))
وَالْحِفْش : الْبَيْت الصَّغِير , وَعِنْد النَّسَائِيِّ عَنْ مَالِك : الْحِفْش الْخُصّ , وَهُوَ أَخَصّ مِنْ الَّذِي قَبْله . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : الْحِفْش الْبَيْت الذَّلِيل الشَّعِث الْبِنَاء .
ووَقَعَ فِي رِوَايَة لِلنَّسَّائِيَّ " عَمَدَتْ إِلَى شَرّ بَيْت لَهَا فَجَلَسَتْ فِيهِ " وَلَعَلَّ أَصْل الْحِفْش مَا ذَكَرَ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَيْت الصَّغِير الْحَقِير عَلَى طَرِيق الاسْتِعَارَة
قَوْله ( ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاة أَوْ طَائِر " لِلتَّنْوِيعِ لا لِلشَّكِّ .
(فَتَفْتَضُّ) فَسَّرَهُ مَالِك فِي آخِر الْحَدِيث فَقَالَ : تَمْسَح بِهِ جِلْدهَا , وَأَصْل الْفَضّ الْكَسْر أَيْ تَكْسِر مَا كَانَتْ فِيهِ وَتَخْرُج مِنْهُ بِمَا تَفْعَلهُ بِالدَّابَّةِ .
قَالَ الأَصْبِهَانِي وَابْن الأَثِير : هُوَ كِنَايَة عَنْ الإِسْرَاع , أَيْ تَذْهَب بِعَدْوٍ وَسُرْعَة إِلَى مَنْزِل أَبَوَيْهَا لِكَثْرَةِ حَيَائِهَا لِقُبْحِ مَنْظَرهَا أَوْ لِشِدَّةِ شَوْقهَا إِلَى التَّزْوِيج لِبُعْدِ عَهْدهَا بِهِ .
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : سَأَلْت الْحِجَازِيِّينَ عَنْ الافْتِضَاض فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُعْتَدَّة كَانَتْ لا تَمَسّ مَاء وَلا تُقَلِّم ظُفْرًا وَلا تُزِيل شَعْرًا ثُمَّ تَخْرُج بَعْد الْحَوْل بِأَقْبَح مَنْظَر ثُمَّ تَفْتَضّ أَيْ تَكْسِر مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّة بِطَائِرِ تَمْسَح بِهِ قُبُلهَا وَتَنْبِذهُ فَلا يَكَاد يَعِيش بَعْدَمَا تَفْتَضّ بِهِ .
قُلْت : وَهَذَا لا يُخَالِف تَفْسِير مَالِك , لَكِنَّهُ أَخَصّ مِنْهُ , لأَنَّهُ أَطْلَقَ الْجِلْد وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ جِلْد الْقُبُل .
وَقَالَ اِبْن وَهْب : مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَمْسَح بِيَدِهَا عَلَى الدَّابَّة وَعَلَى ظَهْره , وَقِيلَ الْمُرَاد تَمْسَح بِهِ ثُمَّ تَفْتَضّ أَيْ تَغْتَسِل , وَالافْتِضَاض الاغْتِسَال بِالْمَاءِ الْعَذْب لإِزَالَةِ الْوَسَخ وَإِرَادَة النَّقَاء حَتَّى تَصِير بَيْضَاء نَقِيَّة كَالْفِضَّةِ , وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الأَخْفَش : مَعْنَاهُ تَتَنَظَّف فَتَنْتَقِي مِنْ الْوَسَخ فَتُشْبِه الْفِضَّة فِي نَقَائِهَا وَبَيَاضهَا , وَالْغَرَض بِذَلِكَ الإِشَارَة إِلَى إِهْلاك مَا هِيَ فِيهِ , وَمِنْ الرَّمْي الانْفِصَالُ مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ
( ثُمَّ تَخْرُج فَتُعْطَى بَعْرَة فَتَرْمِي بِهَا ) فِي رِوَايَة مُطَرَّف وَابْن الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِك " تَرْمِي بِبَعْرَةٍ مِنْ بَعْر الْغَنَم أَوْ الإِبِل فَتَرْمِي بِهَا أَمَامهَا فَيَكُون ذَلِكَ إِحْلالاً لَهَا " وَفِي رِوَايَة اِبْن وَهْب " فَتَرْمِي بِبَعْرَةِ مِنْ بَعْر الْغَنَم مِنْ وَرَاء ظَهْرهَا " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة شُعْبَة الآتِيَة " فَإِذَا كَانَ حَوْل فَمَرَّ كَلْب رَمَتْ بِبَعْرَةٍ " وَظَاهِره أَنَّ رَمْيهَا الْبَعْرَة يَتَوَقَّف عَلَى مُرُور الْكَلْب سَوَاء طَالَ زَمَن اِنْتِظَار مُرُوره أَمْ قَصُرَ , وَبِهِ جَزَمَ بَعْض الشُّرَّاح .
وَقِيلَ تَرْمِي بِهَا مَنْ عَرَضَ مِنْ كَلْب أَوْ غَيْره تُرِي مَنْ حَضَرَهَا أَنَّ مُقَامهَا حَوْلاً أَهْوَن عَلَيْهَا مِنْ بَعْرَة تَرْمِي بِهَا كَلْبًا أَوْ غَيْره .
وَاخْتَلَفَ فِي الْمُرَاد بِرَمْيِ الْبَعْرَة فَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا رَمَتْ الْعِدَّة رَمْي الْبَعْرَة , وَقِيلَ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْفِعْل الَّذِي فَعَلَتْهُ مِنْ التَّرَبُّص وَالصَّبْر عَلَى الْبَلاء الَّذِي كَانَتْ فِيهِ لِمَا اِنْقَضَى كَانَ عِنْدهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَعْرَة الَّتِي رَمَتْهَا اِسْتِحْقَارًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِحَقِّ زَوْجهَا , وَقِيلَ بَلْ تَرْمِيهَا عَلَى سَبِيل التَّفَاؤُل بِعَدَمِ عَوْدهَا إِلَى مِثْل ذَلِكَ .[2]
[1] رواه البخاري (5337)
[2] الفتح (9/399)